37
37
روضة الصائم

فتاوى يجيب عنها فضيلة مساعد المفتي العام للسلطنة

20 أبريل 2021
20 أبريل 2021

الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي -

أمر مريض ورثته ببيع كليته بعد موته. ما الحكم الشرعي مع التعليل. وسؤال آخر، هل يجوز التبرع بالأعضاء بعد الممات وهل تشترك كلها في نفس المعنى؟

- في مسألة التبرع بالأعضاء، أجد القول بجواز التبرع بالأعضاء أكثر إقناعًا وأوضح حجة ودليلًا، على أنه ينبغي التأكيد من أول الأمر أن التبرع لا يعني بحال من الأحوال البيع، فالبيع لا يجوز أبدا، وباتفاق العلماء الذين رخصوا في التبرع بالأعضاء وباتفاق المنظمات والهيئات المعنية بالتبرع بالأعضاء ونقل وزراعة الأعضاء فالبيع لا يجوز أبدا. أما التبرع الذي هو أصل هذه القضية فقدمت بأن القول بجوازه أكثر إقناعًا وأوضح دليلًا، لأنه من التصرفات المباحة شرعا فهو إنقاذ لنفس معصومة دون ضرر مؤثر، إذ يشترط في التبرع بالأعضاء ألا يحدث ضررا بالغا على المتبرع، وأن يستفيد منه المنقول إليه، وألا يكون - عندنا نحن المسلمين - مما يؤدي إلى اختلاط الأنساب، أي أنه ينقل صفات وراثية أو أن يكون من مستغلظ العورات، هذه خارجة عن البحث، أما ما سواها من الأعضاء فإن تحقق عدم تضرر المتبرع وعظم انتفاع المتبرع له فإن هذا من إنقاذ النفس. والله تبارك وتعالى يقول: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وفي إنقاذ الأنفس في هذا الدين فضل كبير، فإن منزلة الذي يقوم بإنقاذ غيره من الهلكة ويمنع التلف عن الغير منزلة عظيمة بجملة أدلة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن الفقهاء ذكروا أنه حتى لو أدى ذلك إلى فوات النفس ما لم يتعمد ويقصد إلى ذلك، أي إن أدى انقاذه للغير إلى فوات نفسه إن كان لم يقصد أن يتلف نفسه فعدوا ذلك من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى، لا سيما إن كان سيجود بنفسه في سبيل والد أو أحد الوالدين أو من والد لولده أو من أم لولدها أو لولي كإمام عادل أو عالم جليل من علماء المسلمين، فعدوا ذلك من أعظم القربات ولو أدى إلى فوات النفس، فكيف ونحن نتحدث عن إنقاذ نفس الغير دون ضرر بالغ ودون أذى مؤثر على نفس المتبرع. يضاف إلى ذلك أن التصرفات الممنوعة في الأبدان دلت عليها أدلة خاصة وليس هذا من ضمنها، فنجد في كتاب الله عز وجل المنع من تبكيت الآذان ومن تغيير خلق الله ونجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التنمص والوشم والوصل والتفليج بين الأسنان للحسن، هذه تصرفات دلّ الدليل الشرعي على المنع منها وكأن ما سواها إنما هو على أصل الإباحة إن استند إلى أصل شرعي عام. والأصل الشرعي هنا هو إنقاذ نفس الغير دون ضرر مؤثر إحياء للأنفس (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) فلا يوجد ما يمنع من مثل هذا التصرف لا من الأدلة الشرعية ولا من أدلة أخرى، بل الغريب أن الفقهاء الذين يشددون في أمر التبرع يرخصون في التبرع بالدم ويرخصون في التبرع بالنخاع لاستخلاص الخلايا الجذعية ولا أعرف ما مستندهم، إن كان مستندهم أن الدم والخلايا الجذعية والنخاع يمكن أن تتجدد فلا يتضرر منها المتبرع فهذا الشرط قائم مؤكد عليه في التبرع بسائر الأعضاء فمن أولى الشروط ألا يصاب المتبرع بضرر مؤثر بالغ في حياته. فليس هو من إتلاف الأنفس ولا من إهلاكها بل هو إنقاذ لنفس الغير فلا مانع منه.

ولذلك قلت بأن الفقهاء يكاد يجمعون على إجازة التبرع بالدم وإجازة التبرع بالنخاع وإن قيل بأن الأمر في الدم يسير فليس الأمر كذلك، فيما يتعلق بالتبرع بالنخاع، ومن رأى من الفقهاء أن في ذلك شيئا من التمثيل أو التعرض لحرمة الميت حينما يكون التبرع على جهة الإيصاء ممن يصح منه الإيصاء، فالإيصاء بالتبرع أيسر حكما وأيسر حالا من التبرع حالة الحياة، لأن المحذور الذي يراعى حالة الحياة هو أن يصيب المتبرع ضرر من جراء تبرعه بعض من أعضائه لكن هذا المحذور منتف في حالة الوفاة، وطالما أنه من القربات كما تقدم وأن فيه إنقاذًا لأنفس الغير وأن إحياء الأنفس هو من أعظم القربات في هذا الدين فلا مانع من الإيصاء به، إذ لا ضرر يصيب الميت. ويشترط كذلك أن تعاد جثة الميت المتبرع بشيء من أعضائه إلى حالتها الطبيعية ما أمكن، ونحن نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بقضية مراعاة حرمة الميت أنه قال في شأن حمزة رضي الله تعالى عنه قال: (لولا جزع صفية وأن تكون بعدي سيرة لتركته لبطون السباع وحواصل الطير) فامتناعه عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر، عن ترك جثمان سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه في العراء دون مواراة ما كان لذات حرمة أي لم يكن لمراعاة حرمة بدن الميت وحقوق الميت، بل إنما كان يريد له ما هو أعظم فضلا وأجزل مثوبة عند الله تبارك وتعالى وإنما كان لما قاله (لولا جزع صفية وأن تكون سيرة من بعدي) فإذن هذا يدل أيضا على أن ما يستند إليه المعارضون من شأن حرمة الميت لا مستند لهم فيه وأضعف منه ما يستندون إليه من رواية كسر عظم الميت (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي) هذا على تقدير قبوله في الاحتجاج في هذا السياق فإنما هو في سياق التعدي على الميت، أما ما كان من باب فعل الخير وإنقاذ أنفس الآخرين وما كان من عمل مشروع فلا يدخل أصلا في هذا الباب الذي يشيرون إليه أخذا من هذا الحديث الشريف.

فباجتماع هذه الأدلة وبما يرد به على أدلة المعترضين على هذا الفعل يظهر كما تقدم رجحان القول بجواز التبرع بالأعضاء، إذا أضيف إلى ذلك ما عليه حال المرضى فمرضى الكلى على سبيل المثال ومرضى الكبد ومرضى قرنية العين وما أشبهها من أمراض، فهؤلاء يظلون في معاناة بالغة أو يتكبدون أو يكبدون الدولة أموالا طائلة والكثير منهم من يضطر إلى السفر ودفع مبالغ طائلة وقد يقع البعض منهم ضحايا للاتجار بالبشر وللاتجار بالأعضاء البشرية، فالتماسهم لإنقاذ أنفسهم لا يبالون بأن يدخلوا في هذا الباب في بلدان تنتشر فيها مثل هذه التجارة الممنوعة شرعا وقانونا، فيرجعون بمضاعفات صحية أعظم ويدخلون أنفسهم فيما فيه مخالفات قد تجلب له من الضر والأذى ما لا قبل لهم به، لا لأنفسهم ولا لمجتمعهم وأوطانهم، في حين أن التبرع بالأعضاء يمكن أن يغني عن الكثير من هذه المضار والنفقات والمغارم ويمكن أن يؤدي إلى إنقاذ حيوات الكثير من الناس فمن أجل ذلك قلت بأنه إضافة إلى ما تقدم من أدلة يتناسب لقول جواز التبرع بالأعضاء تماما مع ما تدعو إليه هذه الشريعة من كمالات الأخلاق ومن مقاصدها العالية الشريفة. والله تعالى أعلم.